الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

الأصلع ـ قصة قصيرة










========

الأصلع
قصة محمود البدوى


هل قرأت قصة الرجل الذى يلبس شارة الحداد لدستويفسكى .. وكان يلتقى بالبطل كلما حل فى مكان حتى أصبح يكرهه كرها مرا ويبغضه بغضه للموت ..

لقد التقيت بهذا الرجل فى مجرى حياتى ، ولكنه لم يكن يضع شارة الحداد كأحد أبطال دستويفسكى .. بل كان اصلع مسطح الرأس .. منتفخ الوجنتين قصير العنق يتطلع إليك بعينى فأر ..

عينين ضيقتين رجراجتين تبغضهما من أول نظرة لأنهما تستشفان أغوار نفسك وتعريانك من جلدك ..

ولقد حطت على هاتان العينان لأول مرة فى مطعم صغير بحى الحسين فى الوقت بين العشرين والثالث والعشرين من شهر يوليه سنة 1942 ..

وكان المولد قد انقضى منذ خمسة أيام .. وكنت الزبون الوحيد فى المطعم لأن الوقت لم يكن وقت غداء .. أو عشاء ..

وإذا بهاتين العينين الضيقتين تحدقان فى وجهى بشراسة وأنا امضغ الكبدة .. فتوقف فكاى عن المضغ وشعرت بانسداد الحلقوم .. ووقع فى تقديرى لأول وهلة من الحالة التى رأيت عليها الرجل إنه يبحث عن شخص منذ عشرات السنين لثأر قديم ..

فلما وجده فى هذا المكان الصغير الذى لم يكن يتوقع وجوده فيه شعر بفرحة كبرى .. انتفضت لها جوانحه .. واتسعت عيناه ثم ضاقت من فرط السرور الباطن الذى رقص له قلبه .. وفاضت تعابير وجهه بأشياء عجزت عن وصفها فى هذه اللحظة ..

وعندما لوى وجهه عنى بعد قليل ليدفع الحساب للجرسون استطعت أن أقيس طوله وعرضه .. كان سمينا قصير الساقين يرتدى بدلة رمادية كاملة .. وخيل إلىَّ من فرط تكسرها وتثنى أطرافها أنه ينام بها ..

وكان قميصه متسخا وحذاؤه أكثر اتساخا حتى قدرت أنه لم ينظفه منذ بداية المولد ..

وكنت اتوقع أن ينهض بعد أن دفع الحساب ويذهب لشأنه ولكنه ظل جالسا يتابعنى بنظرات أشد ضراوة ..

وتيقنت بعد أربع دقائق من التحديق المتصل اننى شبهت له وأنه يتبع رجلا له مثل ملامحى تماما ..

وخطر فى بالى لأريحه وأريح نفسى أن اذهب إليه وأبين له ما فى تصوره من خطأ .. ولكننى تركته على حاله عندما وجدته قد ابتاع جريدة مسائية .. وأخذ بقلب وجهه بين صفحاتها سريعا ثم طواها ونهض على التو ..

وكدت انساه تماما .. فقد مر يوم ويوم مثله .. لم أره فيهما .. ثم وجدته يدخل ورائى من مدخل فندق « رمضان » بالسكة الجديدة .. ويرتكز على البنك أمام موظف الفندق ..
وصعدت إلى غرفتى وتركته لأتجنب النظر إلى طلعته ..

* * *

والتقيت به بعد ذلك مصادفة فى شارع الغورية .. مرتين مواجهة .. وفى كل مرة كان وجهى يحتقن من الغضب ..

وايثارا للسلامة .. وقد تكون هذه المقابلات كلها مجرد مصادفة .. وقد يكون هذا الرجل الأصلع المخبول يتبعنى هكذا للوثة فى عقله .. إيثارا للسلامة .. إنتقلت إلى شارع كلوت بك حيث ظلام الحرب والبواكى والمواخير .. والحشد المتدفق من الجمهور .. وعساكر الإنجليز وحلفائهم .. وضعت فعلا فى هذا الزحام ..

ومرت خمسة أيام طيبة .. أحسست فيها براحة نفسى وهدوء أعصابى ..

وفى عصر اليوم السادس .. وجدته أمامى وأنا واقف على دكان سجائر تحت البواكى .. وكانت نظرته صارمة متحدية .. حتى حسبته يسخر من هروبى وانتقالى من حى إلى حى .. وزادتنى نظرته مقتا له .. وسببت لى حالة من الرعب أفزعتنى وجعلت العرق يتفصد من جبينى ..

وكان يتحتم على أن أبقى فى القاهرة إلى منتصف سبتمبر لأعمال تتعلق بنزاع على وقف فى أرض شريف .. وما زلت فى بداية شهر أغسطس .. وانتقالى إلى فندق ثالث فى حى آخر سيزيد من مرض أعصابى ويجعلنى فى حالة أقرب إلى الجنون ..

* * *

وتركت المقادير تجرى ..
وكل ما أستطعت أن أفعله هو أننى تخيرت مقهى بجوار كوبرى « أبو العلاء » فى حى بولاق لأقضى فيه السهرة بدلا من مقاهى العتبة .. حيث يكثر الإنجليز السكارى ..

وكنت أشعر بالهدوء والراحة فى هذا المقهى لأنه يطل على النيل مباشرة ولأن واجهته بحرية ولأنه رغم جمال موقعة قليل الرواد فى النهار والليل ..

ورغم المشوار الطويل الذى أقطعه كل ليلة فى طريقى إليه فقد استرحت إليه وأحببته لأنه فى حى شعبى .. بعيد عن أمكنة العساكر الإنجليز الذين أخذوا يتكاثرون فى قلب العاصمة .. بعد هزيمتهم فى الصحراء ..

وكانوا منكسرين على طول الجبهة .. ويغطون إنكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان ..

وحاول أحد العساكر ذات ليلة خطف طربوشى .. ولو أننى أحمل نصلا حادا أتوماتيكيا معى دائما منذ بداية الظلام وأشهرته فى وجهه فذعر وتركنى لحدث ما لا تقدر عواقبه ..

وكانوا يسمعون المصريين يهتفون تقدم (يا روميل) فيزداد غيظهم وسعارهم ..

وكنت أجلس فى مواجهة الكوبرى وأرى فى كثير من الأحيان قوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصحراء تقودها السائقات الجميلات فى ملابس الحرب ..

وكان منظرهن يهز مشاعرى ويجعلنى أفكر فى الأنثى بإحساس شاب فى الخامسة والعشرين ..

واستراحت أعصابى فى المقهى .. واسترحت فيه كلية من شبح الأصلع الذى مزق ألياف لحمى وجعلنى أعيش فى رعب ..

وكانت حجة الوقف التى جئت بسببها إلى القاهرة قد أمكننا العثور عليها مطمورة بين أكداس الأوراق .. وقد جعلنى هذا أكثر سعادة .. فمشيت فى تلك الليلة على كوبرى « أبو العلاء » وكان القمر قد تم والهواء رخيا وحركة السيارات قد خفت .. والكون كله يوحى بالسكون وأن الناس قد ذهبوا إلى مضاجعهم ..

وفى وهج الأحلام بما تدره علينا حجة الوقف بعد العثور عليها مما جعلنى أتأنى فى السير لتتضح الصورة وتتشكل المعالم الذهبية .. سمعت وقع أقدام خفيفة خلفى .. أقدام رتيبة تقرع خشب الكوبرى فى وقع واحد لا تغيره .. ثم خفتت جدا وخيل إلىَّ من خفوتها أنها تبتعد عنى .. ولا تسير ورائى .. فلما تلفت لأتحقق من تصورى .. وجدت شبح رجل يتبعنى فى الظلام .. ولا يبتعد عنى كما قدرت ..

وتمهلت وأنا أدير رأسى لأستوضح ملامحه ، ولما وقع بصرى على صلعته .. وقف شعرى ، وانتابنى فزع لا أستطيع وصفه .. إنه الرجل بعينه خرج من أعماق الماء .. أو تسلل من وراء الكوبرى .. أو كان يتبعنى كظلى عند ما خرجت من المقهى .. لم أكن أدرى .. تسلط علىَّ غضب أرعش بدنى كله .. وجعلنى أفكر فى خنقه .. إجتاحنى غضب أسود ..

وعندما خرجت من طوار الكوبرى .. أعترضتنى قافلة من سيارات الجيش الإنجليزى .. فغاب الأصلع عن بصرى فى زحمة السيارات .. وبعد مرور القافلة لم أعثر له على أثر ..

* * *

وانتابتنى حالة من الرعب القاتل وأنا فى الفراش جعلت النوم يطير من أجفانى ..

وأخيرا وبعد تفكير طويل راوحت نفسى على أنه حالة من الفزع وتعب الأعصاب وأنه لا يوجد شىء أطلاقا فى حياتى وعملى يجعلان هذا الرجل يتبعنى ..

ولكن فى الصباح .. احتلت رأسى فكرة جديدة ورأيت أن أنفذها على الفور .. أبتعد كلية عن هذا الرجل وأترك له القاهرة ..
وأخذت قطار الظهر المتجه إلى الإسكندرية ..

ولما كنت لا أبغى من السفر التصييف ولا الإستحمام فى البحر .. فقد وقع اختيارى أن أنزل فى فندق صغير ( بالمنشية ) حيث المطاعم الشعبية الرخيصة وحيث يوجد مركز الثقل فى المدينة ..

وكنت أسهر أحيانا فى شارع ( البير ) فى غير ليالى الآحاد .. وهى الليالى التى يكثر فيها البحارة الإنجليز ويكثر مع وجودهم عراكهم وصخبهم .. وكانوا فى حالة فزع من الألمان ورعب مزق أعصابهم ..

ومهما يطل جلوسك لا تشعر بالملل فى هذا الشارع الجميل الفائض بالحيوية والحياة ..

ولهذا كنت ابتعد عنه متحسرا فى مساءى السبت والأحد ... وأقضيهما فى حانة صغيرة بشارع « أديب » وهو شارع أعور قليل الدكاكين ، وحانته أنيقة تنزل إليها بخمس درجات ولا يعرف طريقها الإنجليز ولا حتى المصيفون ..

وفى ليالى الغارات الشديدة كنا نعتبرها أأمن مخبأ لأنها فى جوف الأرض ..

وفى ليلة طيبة الهواء لمحت وأنا أشرب البيرة فتاة مصرية جميلة تجلس إلى مائدة وحدها فى ظل المصباح الجانبى ..

ولم أكن منذ وصولى الإسكندرية قد اتصلت بالنساء .. وجذبتنى الفتاة بعينيها العسليتين والرقة التى فيها ورشاقتها وجمال قوامها..
ودعوتها إلى مائدتى ..

وجاءت وشربنا واتفقنا بعد حوار قصير على أن نذهب إلى شقتها ..

وسرنا متلاصقين فى الشوارع الضيقة وكانت قيود الإضاءة بسبب الحرب تجعلنا نستريح أكثر للعتمة التى كانت عليها المدينة .. ولكن كلما لمحت بعض الإنجليز السكارى من بعيد يغنون وهم يترنحون فى الشارع كنت أتحسس النصل الأوتوماتيكى الذى فى جيبى .. ونبتعد عنهم ..

وكان بيتها فى حارة تتفرع من شارع ( سيزوستريت ) ولم أشعر وأنا أسير بجوارها بطول المشوار .. عندما لم نجد ( تاكسى ) ولا عربة ( حنطور ) فى تلك الساعة من الليل ..

وعندما درنا فى حارتها الضيقة المرصوفة بالبلاط وأصبحنا أمام الباب .. رأيت الرجل الأصلع بلحمة ودمه أمامى فجأة .. وسحقتنى طلعته ..

وفتحت فمى مدهوشا .. وارتعش بدنى كأنما وخز جسمى كله بالأبر ..

وكانت الفتاة قد تقدمتنى فى مدخل البيت فلم تلاحظ حالتى .. وتبعتها وأنا مصعوق ..

* * *

وكانت شقتها صغيرة وجميلة .. وشعرت بالهدوء قليلا عندما أغلقت وراءنا الباب .. ولكن فى حجرة النوم وجدت فى المرآة رأس الأصلع فسح عرقى .. فى اللحظة التى كانت هى فيها تخلع ملابسها ..

وعندما تمددت بجانبها .. كان سيل العرق لا يزال يتصبب ..
فمسحت على جبينى وقالت برقة :
ـ مالك .. ؟
ـ لا شىء ..
ــ شربت كثيرا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ جسمك بارد ..
ـ أبدا ..

ونظرت طويلا إلى عينى .. وقالت :
ـ هل تتصور أننى أخالط الإنجليز .. وتخاف من المرض .. ؟
ـ أبدا .. أنك حورية .. ولقد أشتهيتك كأجمل أنثى فى الوجود .. ولكن الأحسن أن أستريح الليلة .. وسأجىء إليك غدا ..
وارتديت ملابسى وقدمت لها جنيها أخذته بصعوبة ..

وسرت فى الشوارع وأنا شبه مجنون .. كنت فى ثورة عارمة .. فقد كان هذا الرجل المجنون السبب فى أن أشعر بالمهانة أمام أجمل أنثى ..

كانت عيناى تقدحان شررا .. وتبحثان عنه .. سرت فى الشوارع ومن حيث بدأت .. جئت ..

ولمحته فى شارع « النبى دانيال » .. يسير الهوينا .. هادئا .. كأنه ما فعل شيئا .. وتبعته ورأسى يغلى كالمحموم .. تبعته كظله .. وأنا أكتم وقع خطواتى .. ولم يكن فى الشارع سوانا .. ومال إلى شارع جانبى ودخل بيتا من أربعة طوابق .. بيتا قديما وسلالم متآكلة وكانت الظلمة فى المدخل وعلى السلم شديدة .. ومع ذلك استطعت أن أصعد وراءه .. وأدركت من وقع خطواته أنه يسكن فى الطابق الأخير ..

وأحسست به وهو يفتح الباب .. ورأيت أن أباغته قبل أن يخلع ملابسه أو يترك فتح الباب لغيره إن كان فى الشقة سواه .. فأسرعت وراءه وضغطت على الجرس .. وأول شىء طالعنى صلعته وأخذته مباغته بضربات حادة وتركت النصل فى جسده لم أنزعه .. وجريت إلى الشارع .. وكان السكون يخيم ..

* * *

وفى الصباح الباكر خرجت من باب الفندق .. وركبت الترام « الدائرى » وأنا مأخوذ تماما ..

كنت فاقد الشعور مذهولا .. وعلى بصرى غشاوة جعلتنى لا أميز معالم الطريق ..

ونزلت فى ( محرم بك ) لأمشى .. وجدت أن الحركة خير من السكون .. فمشيت فى الشوارع ومشيت .. ومن وراء سور عال .. لمحت وجوه أطفال فى داخل الفصل ومن نافذة الفصل الوحيدة .. رأيت مدرسا يضرب تلميذا صغيرا على أطراف أصابعة بسن المسطرة .. كانت الضربات متلاحقة وموجعة .. والتلميذ يصرخ ..

واشتغل رأسى فجأة .. ومضى شىء جعلنى أرجع إلى سن الطفولة ..

وتذكرت مدرس الرياضة الأصلع الذى كان يضربنى فى صباح الشتاء البارد على أطراف أصابعى بسن المسطرة .. والأصابع متجمدة من البرد .. فيكون الوجع رهيبا .. ينخلع له القلب ..

تذكرت مدرس الرياضة الأصلع وكيف كنت أبغضه إلى درجة الموت ولكنه أفلت منى طوال هذه السنين .. ووقع الرجل الآخر المسكين مكانه .. ضحية لعذاب الطفولة ..

وصرخت وظللت أصرخ فى قلب الشارع حتى تجمع حولى الناس وكونوا دائرة أخذت تضيق ولكن الوهج المتطاير من عينى جعلهم لا يقتربون أكثر ..

==============================
نشرت القصة فى مجلة " الهلال " عدد اكتوبر 1970 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " صقر الليل " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================

البرج ـ قصة قصيرة







نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان


===========

البرج


قصة محمود البدوى

عندما استولى الألمان على « الضبعة » فزعت الشركات الكبرى وبيوت المال الموجودة فى القاهرة .. وأخذ الأثرياء والذين ارتموا فى أحضان الإنجليز يعدون العدة للهرب إلى السودان ..

وكانت الغارات متصلة فى النهار والليل والحرب قد أصبحت على خطوات منا ..

وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك ..

واتخذت طريقى إلى البنك الأهلى كالعادة لأصرف المبلغ المخصص لمرتبات الموظفين فى الشركة ..

ووقفت على جانب من الطاولة الطويلة أعد السبعة آلاف جنيه وبجوارى زملائى من الصيارف .. وكانوا يتحدثون فى قلق .. عن مصيرنا جميعا فى الشهر المقبل .. وهل سنجىء إلى هنا ونقف هذه الوقفة .. ؟ أو سنكون فى عرض الطريق ..

ووضعت المبلغ فى حقيبتى وخرجت من صالة البنك إلى شارع قصر النيل ووقفت على الناصية انتظر سيارة أجرة لأركبها إلى الشركة كما كنت أفعل كل مرة .. وفى أثناء ذلك دوت صفارة الانذار .. فملت إلى الباكية .. لما سمعت أزير الطائرات فوقى وقصف المدافع المضادة .. وكان الضرب شديدا حتى خيل إلى أن بعض الجنود قد هبطوا بالمظلات فى مداخل العاصمة وعلى رأس « الكبارى » والطرقات ..

واشتعل رأسى بخواطر لم أفكر فيها قط وأنا واقف وبجوارى أكياس الرمل التى تحيط بالبنك .. جاءت من وحى الساعة .. وطالت الغارة .. وكانت كل لحظة تمر تشد من عزمى إلى تنفيذ ما انتويته .. بأسرع ما فى المستطاع ..

وبحماسة الشباب لكل مغامرة .. ودون خوف .. انطلقت بالمبلغ إلى بيتى وأخذت أعد حقيبة السفر بالسرعة التى يتطلبها الموقف ..

وكانت محطة القاهرة تعج بالجنود الإنجليز الهابطين من القطارات والصاعدين إليها بأحمالهم ، وبنادقهم على أكتافهم .. وأثر الهزيمة باد على وجوههم .. والناس يتخاطفون الصحف .. والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد ..

وسرنى الزحام الذى وجدته فى المحطة .. والجمهور الغفير بأزيائه المختلفة.. فتهت فى وسط هذه الجموع حتى ركبت قطار الظهر المسافر إلى الإسكندرية ..

ولم أكن أعرف حتى بعد أن تحرك القطار أين سأنزل ولكننى كنت أعرف كل شبر فى الإسكندرية ..

* * *

وكانت الحركة فى الإسكندرية عادية جدا والمدينة كما ألفتها .. ولا يغير من وجهها سوى وجود الجنود الإنجليز والأمريكان بكثرة فى الشوارع .. وكنا فى بداية الصيف .. والجو لطيف .. والمدينة لا تزال ضاحكة ..

وجلست فى مدخل قهوة صغيرة فى شارع « النبى دانيال » لأستريح وأختار مكان الإقامة ..

ووجدت بعد تأمل أن الموقف يتطلب أن أبتعد عن كل مكان يمكن أن ألاقى فيه شخصا أعرفه .

واخترت بقليل من التفكير « المندرة » .. لأنى أعرفها جيدا ولأنها بعيدة عن العيون ..

وقد تنشر الصحف صورتى فى الصباح التالى وتروى ما حدث بإثارة .. وقد تجبن الشركة عن النشر لأنها يهودية .. وتتوقع دخول رومل .. فى كل لحظة ..

وفى كلتا الحالتين أنا آمن فى المندرة .. وهى خير مكان ..

وخلال لحظات كانت تمر فى زحمة المدينة كنت أنسى أننى هارب وأحمل سبعة آلاف جنيه مسروقة ..

وبلغت « المندرة » وقرص الشمس يتدلى فى البحر .. وكان البحر لا يزال يهدر وموجه يزحف على الشاطئ الرملى ..

واتجهت إلى المساكن .. وأنا أعرف أن كثيرا من السكان هجروا الإسكندرية بسبب الغارات وزحفوا إلى الريف ..

فكانت المساكن الخالية كثيرة جدا .. ولم أكن أود أن أستعين بأى انسان فى البحث عن غرفة ..

تركت المنازل القريبة من البحر ، وعبرت شريط سكة حديد « أبى قير » كنت أود أن أجد غرفة هناك فى المنازل المقامة على التلال .. والتى تحيط بها الحدائق الصغيرة .. هناك يمكن التخفى فلا أحد يتعقبنى فى مثل هذا المكان ..

كانت المنازل متشابهة وقليلة الارتفاع .. واسترعى انتباهى منزل على شكل برج كان أعلاها جميعا .. وبه لافتة تشير إلى غرفة للإيجار ودرت حوله مرتين .. ثم ضغطت على الجرس .. والحقيبة لا تزال فى يدى وعيناى تتطلعان إلى فوق .. ولم أتلق ردا .. فطرقت الباب خشية أن يكون الجرس معطلا ، طرقته مرتين فلم أسمع غير السكون فتسحبت متمهلا على الرمال .. وأنا أفكر فى الذهاب إلى جهة أخرى ..

وهفا إلى من عل صوت ناعم يقول :
ــ مين .. ؟
فتطلعت إلى فوق .. فرأيت سيدة شابة تطل من نافذة البرج ..

بدت لى أنها خارجة على التو من الحمام .. كانت محلولة الشعر .. والروب الأزرق ينفرج عن صدر كالمرمر ..

وقلت وأنا أحاول أن أجعل صوتى خافتا لا يسمع ..
ــ فيه غرفة مفروشة ؟
ــ أنا نازلة ..
وحدث ما توقعته .. فهبطت وفتحت الباب .. ووقفت أمامى تتفرس فى وجهى وأنا ممسك بالحقيبة .
وسألتها عن الغرفة ..

فسألتنى بنعومة :
ــ عاوزها .. شهر واحد أو شهرين .. ؟
ــ شهرين وربما أكثر .. عندما تستقر الأمور ..
ــ طيب .. لما أسأل ماما .. اتفضل ..

ودخلت من الباب الخارجى .. إلى فسحة صغيرة .. وقدمت لى كرسيا .. وانسابت إلى الداخل وهى تقول :
ــ يا ماما .. فيه واحد أفندى عاوز يسكن ..
وسمعت الجواب آتيا من بعيد دون أن أرى صاحبته ..
ــ طيب يا بنتى وماله .. فرجيه على الغرفة اللى فوق ..

وصعدت سلالم البرج .. وراءها إلى غرفة علوية مفروشة بأثاث بسيط .. ولكنها جميلة وتطل على ناحية البحر ..

ويبدو أنها كانت بداية لشقة كاملة .. ولكنها لم تتم فقد ظهر أثر ذلك على السطح ..

وكان لابد أن استعمل دورة المياه الموجودة فى شقتها .. لأن الغرفة لم يكن لها دورة مياه خاصة ..

ولذلك أعطتنى السيدة مفتاح الشقة .. ونقدتها أجر الغرفة مقدما عن شهر ..

وأخذت تدلنى على كل شىء فى الغرفة .. ثم خرجت بى إلى السطح وأرتنى برج الحمام .. الذى أصبح خاليا تماما .. وشاهدت معها المنظر كله وما يحيط بالبيت من بساتين .. ومنازل صغيرة على غاية من الجمال ..

وسألتنى بدماثة إن كنت فى حاجة إلى مزيد من الأثاث فى الغرفة .. فشكرتها .. وقلت لها أن الموجود فيها فوق الكفاية ..

وحيتنى ونزلت إلى شقتها وجلست ببذلتى متجها إلى ناحية الشمال .. وكانت الشمس تجنح للغروب والهواء يحمل إلى من بعيد نسيم البحر ..

وكانت تلال الرمال المحيطة بالبيت تلمع فى الشمس والنخيل الكثير المحيط بالمساكن يوحى إلى بأننى انتقلت فجأة إلى واحة .. هادئة ساكنة ..

كان يخيم على « المندرة » .. هدوء غريب .. كأننا فى صميم الريف هدوء كنت أطلبه بجدع الأنف فوجدته بسهولة .. أنه أحسن مكان لهارب ..

وكانت الحقيبة الملآنة بأوراق البنكنوت موضوعة هناك فى الركن ولم افتحها .. وأخذت أفكر فى المكان الذى أخفى فيه المبلغ .. أأتركه كما هو فى الحقيبة أم أنقله إلى الدولاب .. وأخيرا وضعته فى درج الدولاب .. وغطيته بالملابس الداخلية ..

وخلعت بذلتى واغتسلت من تراب السفر .. ورأيت شقتها وكانت مكونة من غرفتين صغيرتين وفسحة .. ورأيت والدتها العجوز .. ولم أر فى البيت سواهما .. وكان الأثاث يدل على أن الأسرة متوسطة الحال .. ووجدت فى عين الأم صرامة لما وقع بصرى عليها .. وكانت ساكنة الطائر ولكن حسها كان يعلو دائما على صوت ابنتها .. وكانت هذه طيعة لها على طول الخط ..

* * *

وعضنى الجوع .. فركبت القطار فى الليل إلى المدينة .. وكان الاظلام تاما .. والناس رغم الظلام فى حركة دائبة .. والملاهى ممتلئة بالجنود الإنجليز والسكارى ..

وكانت هناك فصائل من الجنود فى المحطة راحلة إلى الجبهة .. والدبابات تتدحرج بعيون عمياء فى الشوارع الرئيسية ..

وكان سكان المدينة قد خرجوا إلى المقاهى يستمعون فيها إلى أخبار الحرب.. وإلى دور السينما والملاهى المتناثرة على طول الكورنيش ..

ودخلت مرقصا .. وجلست إلى مائدة فى الركن وطلبت كأسا من البراندى .. وكان الضوء خافتا ورائحة الدخان تغطى المرقص .. وفى دائرة الضوء راقصة مصرية شابة ترقص رقصا شرقيا مثيرا ..

وكان جسمها لدنا بديع التقاطيع .. ومن عينيها يطل بريق الشهوة .. وحولت نظراتى إليها ولاحظت أنى لا أحول طرفى عنها ولما انتهت الرقصة مرت بجانبى لأدعوها إلى مائدتى ولكنى لم أفعل .. وجلست مترددا .. ومشت نحو زبون آخر وجلست تحادثه ..

وشعرت بعد قليل أن التردد فى دعوتها قد ولد عندى أحساسا بالضيق.. فطلبت كأسا ثم كأسا .. وجلست أشرب حتى أحمرت عيناى وأحسست بثقل فى رأسى .. وأخذت أحس أكثر وأكثر بفظاعة ما عملته فى الصباح .. وبأننى لا أستطيع أن أختفى أكثر من شهر .. ثم أقع فى قبضتهم .. وأنه لا شىء ينقذنى إلا دخول رومل وسحق الشركة بكل من فيها من يهود ..

وكان الخوف من دخول السجن قد أرعبنى فجلست حزينا منقبض الصدر ..

* * *

وعندما خرجت إلى الشارع كان الجو لطيفا وهواء البحر يرطب الوجوه .. وشاهدت بعض المجندات الإنجليزيات يتبخترن فى شارع صفية زغلول .. فى ملابسهن الرسمية وكن جميلات أنيقات .. وخدودهن وردية .. وكان الحزن والقلق والخمر التى شربتها قد جعلتنى أشتهيهن بجنون ، كانت الرغبة الجنسية هى منقذى الوحيد من عذابى وقلقى ..
ولما ملن إلى شارع « شريف » تبعتهن ودخلن السينما .. فدخلت وراءهن وجلست فى نفس الصف ..

وكان الفيلم مثيرا .. ورغم ما فيه من مواقف فقد جلسن ساكنات ..

وكان هناك جنود انجليز فى الصالة يشاهدون الفيلم مثلنا فلم أحفل بهم اطلاقا .. وتولد عندى فى هذه اللحظة أحساس رهيب للقتال .. ودوت صفارة الانذار فى الخارج .. فتوقف العرض فى السينما .. وظهر على وجوه المجندات الاضطراب .. والخوف .. ونحن فى هذا المستطيل الضيق والظلام يرج النفس ويمزقها ..

وتلقين من بعض الجنود اشارة فنهضن وخرجن متسللات .. كانت هناك عربات مغلقة تجمعهن فى الشوارع ..

وخرجت بعدهن ومشيت فى الظلام إلى المحطة وأنا شارد الذهن تماما ثم ركبت القطار إلى المندرة ..

* * *

ومن عادتى أن آخذ حماما بعد كل جولة فى المدينة فخلعت بذلتى ولبست البيجاما ونزلت إلى شقة سعدية وكان السكون مخيما ولم أكن أعرف أتنام مع أمها فى غرفة واحدة أم تنام وحدها .. لم أسمع حسها .. ولكن فى الصباح عرفت أنها كانت ساهرة وأحست بى وأنا فى الحمام ..

ومرت عشرة أيام استطعت أن أشعر فى خلالها بالاطمئنان وأن أحدا لا يتعقبنى وأن مصيرى قد أصبح مجهولا للشركة فمن المحتمل جدا أن يتصوروا أننى أصبت فى غارة .. أو قتلت فى حادث سيارة فى الظلام ..

ولكن الشىء الذى أقلقنى أن زحف رومل قد توقف فى العلمين .. مما جعل الشركات تجمع شملها من جديد ..

ولم أكن أود أن أطلق لحيتى أو أغير زيى فألبس الملابس البلدية مثلا بدل البدلة .. لم أكن أود أن أفعل هذا أمام « سعدية » .. وأمها حتى لا أثير شكوكهما .. وعلى الأخص أنه لم يكن بينى وبين الأم أية مودة .. وكل ما فعلته اننى غيرت اسمى من إبراهيم عبد الكريم إلى سيد عبد القادر .. ولم أبق فى حوزتى أية أوراق تشير إلى اسمى الحقيقى ..

وكان البيت هادئا .. وليس فيه من السكان .. سوى سعدية وأمها وساكن فى الدور الأرضى .. وكنت لا أراه إلا لماما ..

وكان « سليم » يعيش وحيدا .. ويقولون أن زوجته هجرته .. لما اشتعلت الحرب واشتغلت راقصة فى القاهرة .. وعشقها أحد الضباط الإنجليز وأصبحت محظيته ..

وكان الرجل فى حوالى الثلاثين من عمره قويا طويل العود .. ولكن أثر حادث هرب زوجته على عقله .. فأصابته لوثة .. من كثرة كلام الناس عن زوجته وتقريعهم .. وكان الصبيان يتضاحكون عليه فكان يثور عليهم ويحاول ضربهم ثم يهدأ سريعا ..

وأصبح يبتعد عنهم ويعيش فى عزلة تامة ولا يأتى إلا إذا خيم الظلام .. فكنت لا أراه إلا نادرا .. ويخيل إلى أنه لا يأتى إلى البيت إلا لينام .. ولم أكن أعرف عمله على وجه التحقيق ..

وانقضى أسبوعان آخران .. ووجدت نفسى لطابع الملال أقضى الليالى كلها فى ملاهى الإسكندرية .. وكنت دائما أضع فى محفظتى .. عشرة جنيهات للصرف .. وثلاث ورقات كل ورقة بمائة جنيه فى جانب من المحفظة وأبقيها ولا أمسها على احتمال أن البيت سيدمر فى غارة جوية وهذا المبلغ سأعيش به إلى حين ..

ولم يكن الظلام الذى يغلف المدينة يرهبنى ولا وجود الجنود الإنجليز والأمريكيين فى كل مكان ..

وكانت قوافل سياراتهم تتحرك دوما .. فى الشوارع الرئيسية وهى حاجبة أنوارها خشية الغارات التى اشتدت على الإسكندرية ..

وكانت قطع من الأسطول البريطانى راسية هناك فى مياه الإسكندرية .. ولكنها كانت لا ترى بالعين المجردة فى عرض الماء .. كانت تختفى عن الأنظار وكان وجود فصائل من الجنود الإنجليز فى « أبى قير » يجعلهم دائما من ركاب القطارات الذاهبة إلى المندرة والراجعة منها .. وفى الليل كنت أرى بعضهم سكارى يترنحون فى شوارع « المندرة » أو فى صحبة من يقودهم إلى حيث النساء الساقطات ..

وكان الفراغ والتبطل وظلام الحرب ووجود المال معى بغير حساب يجعلنى أصرف بسخاء وأدور على الملاهى كل ليلة ..

ودفعنى القلق .. إلى طلب النساء .. فكنت ألتقى بهن فى شارع « البير » وأرافقهن إلى مساكنهن ..

وحدث ذات ليلة أن نشبت معركة رهيبة بين الجنود الإنجليز والأهالى فى شارع البير وأطلق فيها النار وكدت أن يقبض على لولا أننى جريت فى الظلام ودخلت فى أول باب مفتوح صادفنى فى الشارع .. وكنت أسمع خلفى ضوضاء المعركة وصوت الرصاص وأحاول بكل جهد أن أبتعد عنها .. حتى لا يقبض على وتقع الكارثة ..

والظاهر أن سكان العمارات المجاورة فى الحى أحسوا بها .. لأنهم أطلوا من النوافذ والشرفات فى الظلمة البادية وسمعت وأنا فى مدخل البيت حركة أقدام تقترب فصعدت إلى الدور الرابع .. ووقفت على البسطة مذعورا وأنا أسمع جلبة رهيبة تقترب فى كل لحظة ..

ووقفت أمام باب مغلق أحاول أن أقرأ اللافتة المكتوبة عليه ورقم الشقة.. وهنا سمعت الباب المقابل ينفرج وأطلت منه سيدة مصرية فى حى معظم سكانه من الأجانب ..

ولما بصرت بحالى .. قالت بعذوبة :
ــ اتفضل ..
فدخلت على التو دون تردد .. وأغلقت الباب ورائى وأخبرتنى أنها أحست بالمعركة منذ بدايتها .. وأننى فى أمان الآن .. ويمكن أن أقضى عندها الليل كله .. أو بعضه .. على حسب رغبتى .. وأنها وحدها ويؤنسها وجودى وأدركت من حركاتها أنها غانية ..

وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث وكانت فرحة وشربنا وأعطتنى شفتيها.. ونمت فى فراشها ..

ولما خرجت فى الصباح .. إلى الطريق عرفت أنها سرقت محفظتى بكل ما فيها من نقود ..
وقضيت أسبوعا كاملا لا أبرح فيه المندرة ..

* * *

وأصبحت فى الشهر الثانى من هروبى وكان كل شىء مريحا فى البيت .. ولم أكن فيما عدا غسل ملابسى أشعر بأى مضايقة .. وكنت أرسل القمصان للمكوجى ولكن الملابس الداخلية ترددت فى ارسالها لأنى خشيت أن يغسلها مع ملابس أخرى .. فكنت أغسلها بيدى فى الحمام ..

وحدث أن رأتنى سعدية وأنا أفعل ذلك .. فتناولتها من يدى وقالت بعذوبة لم أسمعها من فمها من قبل ..
ــ ولماذا لم تخبرنى .. اترك غسيلك هنا .
وشكرتها بقلب حار ..
ولقد أخجلتنى بفعلها هذا ، وزادت رقتها على مدى الأيام واهتمامها بى فتحولت إليها بعد أن كانت عندى مجرد صاحبة بيت .. كانت متوسطة الطول سمينة قليلا .. وكان قوامها جميلا متناسقا .. ووجهها أبيض فى استدارة وشعرها أسود غزيرا .. وعيناها جميلتين عذبتين .. وعلى شفتيها رضاب يتحير أبدا ..

وكان صوتها خافتا عذب الجرس .. وكانت ترد على زعاق أمها بصوت هادىء حيرنى ... وكنت أسأل نفسى دائما لماذا لم تتزوج فتاة فى مثل جمالها ولها بيت تملكه ..
وكانت قليلة الخروج وست بيت ممتازة ..

وكنت بعد أن أخرج من الحمام أراه قد نظف فى دقائق قليلة وعاد رخامه يلمع .. وكان فراشى وحجرتى فى غاية من النظافة ..

وكانت تقدم لى الشاى .. والماء المثلج .. وتركب الزراير الساقطة من القمصان .. وتكوى لى البيجامة وتعد لى ماكينة الحلاقة فى الحمام ..

ولم أكن أبغى بيتا وحنانا أكثر من هذا فى حياتى .. وكان يحزننى أننى وجدت هذا البيت وهذا الحنان وأنا هارب .. مطارد ..

وكان الهدوء الذى خيم على جبهة القتال فى العلمين يمزق أعصابى .. إذ كنت أجد فى استمرار الحرب وتأججها نجاة لحياتى ..

وكان يخفف من وقع الأمر على نفسى استمرار الغارات .. والاظلام فى كل مكان .. وهجرة السكان من المدينة إلى الريف ..

وقد جعلنى القلق وكثرة المال الذى فى حوزتى أتردد على البغايا .. وأصاحب الراقصات فى الملاهى وكنت أشعر بجفاف حياتى وضحالتها ..

ولكن لم يكن من سبيل إلى شىء آخر أعمله .. ونسيت أهلى فى القاهرة.. إذ كانوا قلة وكنت أعيش فى عزلة تامة عنهم حتى قبل بداية الحرب .. ولم أكن أعرف عنهم شيئا اطلاقا وأنا فى الشركة ..

ودارت فى ذهنى مشروعات كثيرة كلما نظرت إلى أوراق البنكنوت فى الدولاب ..

وفكرت فى أشياء أعملها وأدر منها ربحا كبيرا ولكننى كنت أتردد فى التنفيذ وأخيرا استقر رأيى على أن أرحل إلى الخارج بعد أن أعثر على من يهربنى فى سفينة بضائع ..

ولم أكن أدرى هل استرابت السيدة سعدية من حالتى .. فأنا متأنق وأصرف بسخاء ولكننى كنت أخرج فى الصباح كأى شخص يعمل ولا أعود إلا فى ساعة القيلولة ..

وعندما بدأ الخريف تغيرت طباعى وزادت صلتى بها .. حتى كدت أن أعترف لها بما فعلته ..

* * *

ولقد طرق بابى ذات ليلة .. بعد أن عدت من الخارج وخلعت بذلتى .. فارتجفت إذ لم أعتد على طارق فى الليل .. ونظرت إلى المبلغ المسروق وكنت أود أن أخفيه فى طيات المرتبة ولكننى وجدت أن أى عمل الآن لا ينفع ..

واضطربت .. ثم سمعت صوتها .. ففتحت الباب فوجدتها على الباب تحمل لى الغسيل كله مكويا ..

ودخلت وهى تقول :
ــ نغير لك أكياس السرير .. والملاية .. لأنك نسيت ولم تترك المفتاح ..
ونظرت بنعومة وقالت :
ــ أمسك معى المخدة ..
وأخذت تدخل فيها الكيس .. وجذبتنى بحركة بارعة فوقعت وضحكت.. وأمسكت بها وهى نشوانة من الضحك .. وضممتها إلى صدرى .. وأخذت أقبلها بعنف وشراسة وفاجأتها الحركة .. فبهتت .. ثم استجابت برغبة منطلقة ..
ولقد لفنى بعد هذه الليلة مثل الاعصار .. وأصبحت لا أستطيع أن أقاوم اشتهائى لها وشغفى بها .. وكانت تأتينى كل ليلة بعد أن تنام أمها ..

وكنت كلما وجدتها وحدها فى الحمام أو فى المطبخ ووالدتها بعيدة عنها .. أعانقها بحرارة ..

وأخذت أغمرها بالهدايا .. أشترى لها أفخر الثياب وأنفس الجواهر ..
وكنت أعطيها النقود بغير حساب ..

وتغير الحال فى البيت .. وشعرت الأم بما فعلته لابنتها فكفت عن الجفاء الذى كانت تقابلنى به ..

ولم تسألنى سعدية عن مصدر هذا المال .. ولعلها خمنت شيئا .. ولكنها سكتت لم تصرح لى ..

وكنت أعتصر قوامها اللدن وكأننى أشرب الرحيق لحياتى .. ولم تكن ترتوى من حبى أبدا .. كانت تطلب المزيد .. وقد جعلنى هذا الاعصار أؤجل رحيلى .. وكنت قد اتفقت مع بعض الصيادين على أن يحملنى إلى سواحل بيروت .. وهناك أهرب إلى أوروبا .. عن طريق تركيا .. وقد قبل هذا نظير خمسمائة جنيه ..

لقد تكشف لى أن هذه المرأة قد استحوذت على ، وفصلتنى عن الحياة .. وعن كل ما يجرى فى المدينة .. ونسينا الحرب .. وعندما كانت تدوى صفارة الإنذار لم نكن نشعر بها .. وكنا نود أن يطول الظلام ليطول عناقنا ..

وكنت أتأمل فمها وشفتيها الغليظتين والرضاب الذى ارتوت به روحى وشعرها المتموج وقوامها بكل ما فيه من شهوة .. وأروح فى دوامة الغيرة وأتساءل من الذى تمتع بهذا واعتصره قبلى ولا أعود لنفسى إلا وأنا أشعر بأناملها الخفيفة وهى تمسح على جبينى ..

* * *

كنت كل يوم أتحسس النقود فى مكانها وأطمئن على وجودها .. وأراها رغم كل الذى صرفته كأنها لم تمس ..

كانت أوراق البنكنوت مكدسة فى صفوف كما وضعتها فى الدرج .. مغطاة بالقمصان ..

وأخذت أسائل نفسى ما الذى يفعله الأغنياء الذين يملكون الملايين .. ما الذى يفعلونه وهم يحرمون باكتنازها ملايين الأفواه الجائعة من حق الحياة ..

ما الذى يفعلونه .. وما الذى فعلته بالآلاف التى سرقتها .. لا شىء .. سوى أنها جعلتنى أحس بالضياع ..

لقد مزقنى القلق .. وحطم روحى .. كانت تغشانى موجات من الكآبة .. فكنت أقفل الغرفة علىَّ من الداخل وأزحف إلى الفراش ..
كانت رغبتى شديدة إلى الوحدة .. حتى وإن كنت أتوقع أنها بعد لحظات ستطرق بابى ..

ربما كانت الجنيهات الخمسة عشر التى أتقاضاها بعرقى من الشركة أنفع لى من هذا المبلغ .. ولكننى على أى حال قبل بداية الحرب وبعدها كشاب كنت أحس بالضياع .. وقد يكون سببه الاحتلال .. وقد يكون سببه أن كل القيم قد انهارت أمامى .. ومزقت الصور والمثل وأصبحت أعيش فى ظلام ..

* * *

كنت أفكر فى سعدية وأنا راجع وحدى فى الليل .. هل تحبنى .. وهل كانت متزوجة وأين زوجها أنها لم تكن عذراء هل جرفها التيار .. ؟

وتغشانى الضباب .. وكانت الغيوم تخيم على السماء .. وقبل أن أقترب من البيت أحسست بحركة غير مألوفة فى الحى الهادىء ..

ولما اقتربت أكثر وجدت شيئا أفزعنى .. وجدت نطاقا من الجند مضروبا حول الشارع وعساكر من البوليس المصرى .. والبوليس الحربى الإنجليزى وعلمت أنهم وجدوا عسكريا إنجليزيا مقتولا وموضوعا فى برج الحمام ودلهم عليه قبعته وقد أسقطتها حدأة فى الشارع ..

وكان الهمس يدور بأن « سليم » الساكن فى الدور الأرضى هو الذى قتله وهرب سليم لم يعثروا له على أثر وفتشوا البيت كله ..

فتشوا غرفتى .. وقلبوها ظهرا لبطن .. وكسروا الدولاب وعثروا على المبلغ ..

كنت أسمع هذا الهمس يدور حولى فى الظلام وأنا واقف ..

* * *

وهربت فى جنح الظلام دون أن يشعر إنسان بوجودى وكان معى مبلغ ضئيل .. واشتغلت وقادا فى السفن .. وحمالا فى الموانى .. وبائعا جوالا ..

وطفت حول الدنيا فى مدى عشرين عاما .. انتحلت فيها كل الأسماء .. وكل الجنسيات وتعلمت سبع لغات حية وميتة وعاشرت كثيرا من النساء ..

ورغم كل ما لقيته من عذاب .. فإن الحياة ستظل فى نظرى جميلة وضاحكة والإنسان وحده .. هو الذى يسود وجهها ..
=================================
نشرت القصة فى المجموعة التى تحمل اسم " السفينة الذهبية " لمحمود البدوى عام 1971 وأعيد " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================

w


w

w

w

w

صراع مع الشر ـ قصة قصيرة

صراع مع الشر
قصة محمود البدوى


كانت الحرب دائرة بين الألمان والإنجليز فى الصحراء الغربية .. وكان الإنجليز وحلفاؤهم يفرون مذعورين كالجرزان أمام ضربات روميل القاصمة .
وأخذوا يحرقون أوراقهم فى القاهرة ويعدون العدة لنسف الكبارى والمنشآت العامة وتدمير المدن المصرية على أهلها الوادعين .. كانوا ينسحبون انسحابا عاما .. ويعودون من الميدان شاعرين بمرارة الهزيمة ، فيرتكبون فى العاصمة ابشع الجرائم .
وكانوا وهم يتراجعون فى ذعر يرسلون قوافلهم عـبر الصـحراء تحمل ما تبقى لهم من الرجال والعتاد .
وخرجت سيارة من هذه السيارات من معسكر العباسية متجهة إلى الميدان وكان بها خمسة من الإنجليز وسائق العربة ، وكانت قد مرت من النفق وهى تمضى سريعا ، فلما صعدت المنحدر واستوت فى أول شارع الهرم تمهلت قليلا .
وكانت توحيـدة ورفيقتها انشراح عـائدتين الى البيت .. وكانتا تسرعان قبل الغروب وقبل ظلام الحرب .
مرت بجانبهما السيارة وبعد أن تجاوزتهما قليلا توقفت فجأة ونزل منها جندى بريطانى فى قفزة سريعة وأمسك بتوحيدة .. وهربت رفيقتها مذعورة بين المزارع وهى تولول وتصيح بأعلى صوتها .
وتجمع الناس فى الشارع ، ولكن الجنود الانجليز كانوا قد حملوا توحيدة إلى السيارة وانطلقوا بها فى سرعة المجنون .
ونظر الناس بعضهم إلى بعض وكانوا يعلمون أنه ليست هناك قوة يمكن أن تحميهم من هذا العدوان المسلح ، أو تجعلهم يقابلونه بمثله .. فاصفرت وجوههم .
أما إنشراح فقد جرت إلى منـزل توحيدة وأخبرت زوجها بما حدث فخرج يعدو كالمجنون إلى شارع الهرم .. وهناك طالعه الظلام والسكون فلم يكن هناك أثر لسيارة أو ظلها فوقف يدير عينيه حائرا كالمخبول .. ثم انطلق فى عرض الشارع وقد شرد ذهنه وشلته الفاجعة المباغته عن أى عمل .. وعندما اقترب من النفق رأى جماعة يقفون على واجهة حانوت بقال ويقصون الحادث .. فنظر اليهم فى غيظ
وقال لنفسه :
ـ هـذا ما تصلحون له ايها الجبناء .. تتجمعون وتتحدثون كالنساء ..
وكان قد فكر فى أن يذهب إلى مركز البوليس .. ثم عدل عن هذه الفكرة وهو يقول لنفسه :
ـ وما الذى سيفعله لى البوليس .. ؟
لاشىء ..
السـرير دون أن يشعل النور .. وقد رأى أن يترك البيت كله فى الظلام حتى لا يزعجه المتطفلون والمواسون باسئلتهم السخيفة .. فيزيدونه تعاسة على تعاسه ..
وكان يدخن والظلام على أشده ونافذة الغرفة مفتوحة .. وألسنة الأنوار الكاشفة تضىء السماء .. ولم يكن فى البيت أحد سواه .. وكان قد تزوج توحيدة منذ خمسة شهور فقط ..
كانت فقيرة مثله .. ولكنه كان سعيدا بفقرها .. وكان يحبها حبا جما .. كانت كل شىء له فى الحياة .. وكل أمانيه وكل أحلامه .. واستقرت آماله كلها عليها وتجمعت فيها ..
وكان يعمل فى شركة من شركات الدخان الكبيرة فى منطقة الجيزة .. ولذلك أجر لها هذا المسكن قريبا من الشركة .. ليخرج من عمله طائرا إليها مرتميا فى أحضانها .. فقد كانت تنسيه همومه ومتاعبه ومشاغل النهار كله وما يلقاه فى الحياة والمصنع من عنت واجهاد ..
وكان يحمل إليها كل شىء بنفسه من السوق حتى لاتخرج من البيت فقد كانت جميلة باسمة كورد الربيع ..
وكان يغار عليها حتى من شعاع الشمس الساقط على وجهها ..
ولكنها خرجت اليوم هى وجارتها انشراح لزيارة أمها وذهبت من غير رجعة .. اختطفها الأنذال ..
***
وقبل منتصف الليل سمع الباب الخارجى يفتح .. ودخلت توحيدة .. ولم يتحرك من مكانه ولم يبادلها كلمة ..
وكانت قد اشعـلت نور الردهـة ثم ارتمت على كنبـة ملاصقة للباب .. ولو لم تكن الكنبة مكانها لارتمت على الأرض ، فقد كانت فى حالة من الإعياء التام .. وكان وجهها مصفرا وشعرها منفوشا وملابســها ممزقة فى أكثر من موضع من جسمها .
وكان من يراها وهى متكورة على الكنبة وقد دفنت رأسها فى الوسادة وقوست ظهرها ووضعت ساقيها تحت فخذيها وتركت ضفائر شعرها محلولة تغطى عنقها وتمتد إلى ظهرها يتصور انها ضربت عارية بالسياط حتى أدمت وحتى تقطعت أنفاسها .
وكانت قد أدركت بحسها بعد أن دخلت وألقت بنفسها على الكنبة .. أن زوجها سعيد راقد هناك فى الغرفة الأخرى متيقظ .. وقلق .. وتنهش رأسه الخواطر المروعة التى دمرته تدميرا .. وشلت جسمه ومنعته من الحركة ..
وبقيت فى مكانها الى الصباح .. ومع خيوط الشـمس تحركت ودخلت غرفته .. وكان لايزال على حاله منطرحا بكامل ملابسه على السرير .. وأعقاب السجائر ملقاة فى كل مكان من الغرفة .. وكان وجهـه محتنقا وعيناه حمراوين فى لون الدم .. والدم ينفر من عروق جبهته ، وسحنته سحنة ذئب أغبر حيل بينه وبين فريسته ..
وقالت له بصوت خافت وهى تتناول قميصا لها من فوق المشجب :
ـ مش رايح الشغل يا سعيد ..؟
فلم يرد عليها وأغمض عينيه حتى لايراها .. ورأت وجهه يتقلص على صدره .. وغيرت ملابسها الممزقه وخرجت إلى المطبخ وأعدت له فنجان الشاى الذى تعده له كل صباح ووضعته بجانبه .. وخرجت .. وبعد قليل عادت فوجدت الفنجان لم يمس .. فلم تقل شيئا ..
وانتابتها نوبة صرع .. وأخذت تنشج وتتمتم بكلام لا معنى له .. كانت تود أن تقول له أن أحدا لم يمسها وأنها قاومتهم وأعملت فيهم أظافرها وأسنانها ولما يئسوا منها ألقوها فى العراء ..
كانت تود أن تقول له هذا .. ولكنها لم تستطع ..
ولم يدر بماذا تتمتم .. ولم يسمع شيئا .. كانت نار مشتعلة فى جسمه .. وكان لهب أحمر يشتعل هناك فى رأسه .. وثورة عاتية قد اجتاحته ..
كان لايفكر فيها ولا يحس بوجودها .. وانما يفكر فى هؤلاء الأنذال الذين دنسوا شرفه ويتصور ما حدث كله على بشاعته .. يتصورهم وهم يضعون أيديهم الدنسة على جسمها ويقضقض ويصر بأسنانه من الغيظ ويود أن يحطم كل ما حوله تحطيما ..
ورآها تخرج ملابسها من الدولاب وتضعها فى حقيبتها .. ثم سمعها تقول :
ـ أنا ماشية يا سعيد ..
ولم يقل لهـا كلمة .. ولم يتحرك من سريره وسمعها تفتح الباب وتخرج ..
***
وفى الليلة التالية خرج سعيد فى فحمة الليل .. وكمن فى طريق السيارات الإنجليزية الذاهبة إلى الميدان ، ورأى سيارة تخفف من سرعتها ورأى على ظهرها ثلاثة أو أربعة جنود ، واقترب كالثعلب حتى احتمى فى جذع شجرة وأطلق الرصاص وسمع صرخة مفزعة .. ثم أخذ يعدو بكل قوته ..
وكانت النيران الحامية تطلق فى أثره .. والأنوار الكاشفة تسلط عليه .. وأصيب فى فخذه ومع ذلك ظل يجرى حتى بلغ منزله.
وكانت ملابسه قد تلطخت بالدم النازف من جرحه .. وبلغ منه الاعياء مبلغه ومع ذلك شعر براحة نفسية وبفرحة كبرى لأنه انتقم لعرضه وشعر بحنين إلى زوجته وود لها لو أنها كانت معه الآن ليعانقها ..
وكانت أعصابه قد هدأت وشعر بحنين إلى النوم .. فنام .. واستيقظ فجأة على حركة شديدة على السلم وتسمع وعرف أنهم تقصوا أثره وعرفوا مكانه ..
واشتد قرع الباب وسمع صياحا بالعربية والإنجليزية وحركة نعال ضخمة تهز الباب .. وأمسك مسدسه وأطلق على نفسه الرصاصة الأخيرة ..
***
وعنــدما حطمــوا البـاب وجــدوه هنـاك ملطخــا بالـدم .. وعلى فمــه ابتســامة النصـــر ..







---------------------------

نشرت القصة بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى 1956

----------------------------

الشعلة ـ قصة قصيرة

الشعلة
قصة محمود البدوى





تقع حانة منيرفا فى الشارع الرئيسى فى حى الملاهى والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق .

وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام فى الخارج .. فقد كانت مشهورة بالكفتة الرومانى والمكرونة الإيطالى ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله .

وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..

وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأنى أصبحت بصورة لاتقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفى بالعمل الروتينى الممل فى الصباح .. دون أن أحرك مشاعرى أو أن أتقدم خطوة ..

وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين فى عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم فى الطعام والشراب .. والعمل الشاق فى الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص فى الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة فى المدينة من وراء زجاج ..

أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..

وكنت بحكم طباعى الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..

وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإنى قد وجدت نفسى بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التى تتردد على المشرب .

كنت أجد على " البار " رجلا ضخما عظيم الكرش .. كان السيد " عبد الغفار " يدخل فى الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب .. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الاحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب فى الليلة الواحدة .. " دنا " ممتلىء الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتى ليسكر وحده ..

وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب .. ولما يجدنى لا أشرب يقول للساقى :
ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
وتلفت إليه أقول شاكرا :
ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..

ويحدق فى وجهى بقوة :
ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
ـ انك كالذى يصلى طول النهار .. ويذهب فى الليل إلى وجه البركة .. !

وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
وقال باصرار :
ـ لابد أن تشرب شيئا .. ولو زجاجة صودا ..

وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن " شوبا " من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..

وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع فى يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..

وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن فى اغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى فى الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين .

وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت فى شارع الفلكى .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى فى تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته " عبد الغفار " .

وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن فى عمارة للأوقاف فى هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة .. طارت الخمر من رأسه .. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت .. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..

وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح فى سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .

ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش فى جفاف عيشة مظلمة .

لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان .

***
وفى خلال هذا الركود والملل والفراغ الذى كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ " روميل " يزحف فى الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون فى حاناتها ..


ولكن الخواجه " إيناس " منعهم من دخول " منيرفا " .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل .

وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..

وفى الوقت الذى كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملاهى .. ويشتبكون فى عراك دموى مع السكان الآمنين فى قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين فى " منيرفا " نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. فى كل ميدان .

ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..

***

ولم تكن حانة " منيرفا " بالمكان الذى يجلس فيه النساء . ولكن يحدث فى بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم .

وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..

وفى هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة .

***

وسمعت ضحكات " عبد الغفار " ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
وقال لحسن :
ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لاتعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية فى شارع عماد الدين .

وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت فى شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة .. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت فى الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو فى حالة اعياء تام ..

وعرفت الرجل فقد كان " عبد الغفار " ..
وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
ـ الأفندى مات ..
فارتعشت ..
ـ مات من السكر ..
ـ وفين العسكرى ..
ـ جاى ..
ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة ..
ـ حرام ..

وقلت للناس انى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسى . ومر تاكسى نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .

وحمل الرجل وذهب به سريعا ..

وعلمت فى مساء اليوم التالى أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبى لأعاونه فى هذه المصاريف ..

قال لى وهو يبتسم :
ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبى دى فلوسه ..
وهكذا بدا مثالا نادرا فى الوفاء ..
وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة فى المكان ..

***

وفى الساعة التاسعة من مساء اليوم التالى .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من " بار " .
وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على انها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة .

وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة فى الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة انها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأنى رأيت هذا الجمال يخرج فى الليل وحده وسط الحرب والظلام ..

ولكنى اسـترحت لأن المـكان لايدخـله عساكر من الإنجليز ..

ولما أعطتنى وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظرى شىء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟

ورفعت وجهى عن اليد التى كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحنى علىّ وهو مخمور وحسبنى لم أسمعه فى المرة الأولى فعاد يقول :
ـ تشترى هذه .. ؟
ـ نو..

قلتها سريعا ودون تفكير فى العواقب .. درت برأسى فى المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من فى الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شىء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة فى جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربى ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا فى حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحنى بكليته على المنضدة :
ـ اعطنى .. شلنا ..
ـ ليس معى نقود ..

قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حمـاقتى .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتى بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع فى مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تاثيرها .. فأنا لم أقبل التحدى .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف اننى سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسى فى الشىء الذى سيضربنى به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعنى بين يديه ويلقينى على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..

وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا .. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين فى المشرب حتى يكتم انفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه فى لون الدم ..

وفى تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التى كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا فى ابتسام .

وفى غفلة من الرجل وهو منشغل بى .. تسلل معظم الذين كانوا فى داخل البار .. وبقيت وحـدى أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله .

وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر .. وانتظرت الضربة .. فاغلقت عينى .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا ..

وقالت الفتاة .. وهى تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه فى رقة :
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شىء ..
وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركنى وتحول إليها ..

ووقفت معه على المنصة تضاحكه .. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .

وفى تلك اللحظه رأيت فى يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها "كوبس " النور .. فغرقنا فى الظلام .

***

وفى اليوم التالى وجدت حانة منيرفا .. مغلقه .. والدكاكين التى بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا .

وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التى أضاءت ظلمـات حياتى .. وظلت الجذوة المشتعلة فى قلبى .. لم تنطفىء نارها ابدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهى جالسة هنـاك فى وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

***

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لى فى شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران .. ثم رأيت نورا فى دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله .. وخيل إلىّ أنى أعرفه .. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراسـتى وتأكـدت أنه حسن "سـاقى" منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلىّ ولم يعرفنى .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبداللطيف .. على طول .

ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتنى .

وعرفت أمينة فى الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها .. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة .. وظل صوتها كما سمعته فى تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتـنى .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال فى رأسى مشتعلة .. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهى ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذى تعرضت للموت من أجله ، وما هو أشنع من الموت ..

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك فى عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل فى الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .

وكنت وأنا اخطو فى الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه فى تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسى . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شىء أود أن تظل الشعلة التى اشعلتها هذه المرأة كما هى .. مشتعلة ..
=================================
نشرت بمجلة الرسالة الجديدة 1/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة محمود البدوى " الأعرج فى الميناء" 1958
=================================

السبت، ٢٢ سبتمبر ٢٠٠٧

ص

الحرب العالمية الثانية فى قصص محمود البدوى


نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان
======

الحرب العالمية الثانية وأثرها
على سكان القاهرة والإسكندرية وبور توفيق
فى قصص محمود البدوى
***
اعداد : على عبد اللطيف
و ليلى محمود البدوى
ــــــــــــالقـــــــــــاهرة
اشتـعلت نيران الحـرب بين الألمـان والإنجليز ، ودوت صفارة الانذار ، وخافت النساء واضطربن وتجمـعن فى الأدوار السفلى من البيوت ، وأسرع الرجـال من الطرقـات إلى مداخـل المساكن وإلى المخابىء ، وسمع أزيز الطائرات وقصف المدافع المضـادة ، وصوت القنابل القريبة وهى تدوى بفظاعة وعنف ، وكلما أرعد الجو وأبرق ، صاحت النســاء وهـن يطرن فزعا0

ودارت المعـارك على أشـدها فى الصـحراء الغربية ، وتطورت الأحوال بسرعة ، والإنجليز وحلفاؤهم يتراجعون ويفرون أمام ضربات روميل القاصمة وهو يزحف فى الصحراء .

كانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم ، وكانوا يولون الدبر فى كل ميدان0

وأخذ العساكر الإنجليز يتكاثرون فى قلب العاصمة ، وامتلأت بجيوش الانجليز وحلفائهم ، منها يذهبون إلى الميدان وإليها يعودون0

وكانوا منكسرين على طول الجبهة ويغطون انكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان ، وكانوا يسمعون المصريين يهتفون " تقدم يا روميل " فيزداد غيظهم وسعارهم0

وأخذوا يمرحون فى القاهرة ويسكرون فى حاناتها ، ويملأون الدنيا صياحا ويغنون بالانجليزية فى صخب أغان بشعة ، ويخرجون من الحانات ويمشون فى جماعـات ويدورون سكارى صاخبين معربدين ويحتكون بالمارة المسالمين ويشتـبكون معهم فى عراك دموى ، ويكثر وجودهم فى العتـبة وفى شارع كلـوت بك حيث ظلام الحرب والمواخـير والحشـد المتدفق من الجمهور .

وكان السكارى من جنود الحلفاء يعترضون طريق المواطنين ويخطفون طرابيشهم ، فابتعدوا عنهم وعن طريقهم وعن الأماكن التى يسهرون فيها .

وكانت النساء يسرعن عائدات إلى بيوتهن قبل الغروب وقبل الظلام ، وكن يرتجفن من الخوف كلما شاهدن أحدهم مقبلا عليهن من بعيد .

وانقلبت السينمات ، انقلبت فى الظلام إلى مواخير بسبب الحرب وبسبب جنود الحلفاء .

وذهب العمال ليعملوا فى الجيش البريطانى لزيادة أجورهم والكل يجرى وراء الفلوس .

وطـالت الحـرب واستولى اليأس على النفوس ، وسئم الناس من كل شىء ، وخيم الظلام وطال الفقر والجـوع ونقمة المواطنين على التموين ، وكان الخبز يختفى ثم يظهر أسود كالطين ، ومع ذلك كان الناس يأكلون ، ولم يكن المصريون قد اشتركوا فى الحرب أو كان لهم بها شأن ولكنهم اكتووا بنارها ، وسقطت عليهم القنابل ، وجاعوا وتعذبوا بسببها .

وأفسدت الحرب كل شىء ، فقد تجد عربة وعربتين وثلاث عربات واقفات فى الميدان ساعة وأكثر من ساعة وهى محملة بالركاب ولا تتحرك منها واحدة ، وسائقى التاكسيات كانوا يسرعون فى الليل إلى الملاهى لانتظار جنود الحلفاء ولا يستمعون لنداء المواطنين .

وفى محطة القاهرة يدخل الجنود الإنجليز فى فصائل إلى الرصيف ، وكانت المحطة تعج بالجنود الهابطين من القطارات والصــاعدين إليها بأحمالهم وبنادقهم على أكتافهم ، وأثر الهزيمة باد على وجوههم ، والناس يتخاطفون الصحف والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد .

وفى المحطات كان القطار يجىء متأخرا عن ميعاده ساعة وأكثر من ساعة ، مزدحما بالركاب وكئيبا ، وعرباته قذرة ولم تكن فيه إضاءة والمصابيح كلها مرفوعة من سقف العربات ، وإن وجدت ، فالإضاءة ضعيفة والمصابيح مطلية باللون الأزرق .

وبعد مغادرته المحطة ، يتوقف ، ويطول الوقوف ، فإذا سألت عن السبب ، يقولون غارة .. رغم أن الركاب لم يسمعوا صفارة الانذار ، أو صوت طائرة . وفجأة يلمع شىء فى السماء كالشهب ، وتتأجج النيران لمدة خمس دقائق ، ويخيل للركاب أن الجحيم قد أحاطتهم باللهب .

وكان شارع القصر العينى يزخر طول الليل بحركة السيــارات الكبيرة المحملة بالجنود الذاهبة إلى الميدان والعائدة منه ، وكان رتل السيارات لا ينقطع فى هذا الظلام الشديد لحظة واحدة .

وكانت السيارات تنطلق فى سرعة فائقة ، ولهذا كان السائر فى هذا الشارع يسير حذرا خائفا متوجسا من الظلام ومن السـيارات ومن الجنود انفسهم .

وقوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصـحراء تعبر كوبرى " أبو العلا " تقودها النساء الجميلات فى ملابس الحرب .

وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك .

وكان " النوتية " يسرقون حاجات السلطة من " الصنادل " ويبيعونها بأرخص الأسعار والذين يشترون منهم هذه الاشـياء يبيعونها لأهل القرى ويكسبون كثيرا .

ومن الناس من كان يتاجر فى مخلفـات الحـرب ، فكان عساكر الانجليز يأتون اليهم باللوريات محمـلة بالبطاطين والمأكولات المحفوظة، والمعاطف والملابس ، فكانوا يشترونها منهم ببضعة جنيهات ويبيعونها بالألوف ، وكونوا ثروات ضخمة .

ومن الناس من كان يبيع الماء الملون لأصحاب الحوانيت على اعتبار أنه ويسكى اسكتلندى ويبيعه بالصناديق ، المغلفه المختومة .

وكان نساء الإفرنج يستقبلن العساكر الإنجليز والأمريكان على ابواب المعسكرات ويذهبن معهم إلى السينما وإلى البنسيونات ويقضين معهم ساعات من الليل وهن لا يجدن فى الخيانة الزوجية أى بأس .

وكان فى مواجهة الراوى منـزل قد اتخذ مسكنا " للمجندات " وكان يرى هـؤلاء الفتـيات وهن رائحـات وغاديات فى حجرات البيـت وردهاته ، ويشاهدهن وهن جالسـات يدخـن السجـاير ، ويشربن البراندى ، ويراهن يخلعن ملابس المجندات استعدادا للنوم ، ويرتدينها فى الصـباح ، ويقـمن بالحركات الرياضـية " السـويدية " ويشاهدهن فى احزان الوحدة ، أو عندما يعدن من سهرة صاخبة ، وكان منظرهن يثير أعصـابه وهو يراهن من نافذة غرفته ، كاشفات عن كل المفاتن.


الإسـكــنـدرية
كانت الحركة فى الإسكندرية عادية جدا رغم قيود الاضاءة المفروضة ، والناس فى حركة دائبة والسكان يخرجون إلى دور السينما والملاهى المتناثرة على طول الكورنيش ، أو إلى المقاهى يستمعون فيها إلى اخبار الحرب ، ولا يغير من وجهها الضاحك سوى وجود الجنود الإنجليز والأمريكان بكثرة فى الشوارع ، وكان منظرهم فى ملابسـهم الرسمية وما يحدثونه دائما من ضوضاء وجلبة فى غدوهم ورواحهم ، يثير السخط فى نفوس الأهالى وينظرون إليهم بعين الكراهية .

وكانت الملاهى ممتلئة بالجنود الإنجليز والسكارى ، وفى ليالى الآحاد يكثر البحارة فى الحانات القائمة على جانبى شارع "البير" ويكثر مع وجودهم عراكهم وصخبهم ، وكانوا فى حالة فزع من الألمان ورعب مزق أعصابهم .

وفى الشوارع الضيقة المعتمة تلمح بعضهم سكارى يغنون وهم يترنحون ، وقد تنشب معارك رهيبة بينهم وبين الأهالى ، كما حدث فى شارع "البير" ، وأطلق فيها النار ، وكاد فيها أن يقبض على الراوى لولا أنه هرب واختفى فى أحد المساكن المجاورة لمكان الحادث واختفى عن الأنظار.

وكان معظم سكان العمارات الضخمة على الكورنيش من الجنود الإنجليز ، وترى فى الليل بعضهم يترنحون فى الشوارع من السكر أو فى صحبة من يقودهم إلى حيث النساء الساقطات .

وكان وجود فصائل من الجنود الإنجليز فى "أبى قير" يجعلهم دائما من ركاب القطارات الذاهبة إلى المدينة والراجعة منها.

وكانت قوافل سياراتهم تتحرك دوما فى الشوارع الرئيسية وهى حاجبة أنوارها والدبابات تتدحرج بعيون عمياء .

وكانت قطع من الأسطول البريطانى راسية فى مياه الإسكندرية فى عرض البحر ، ولكنها كانت لاترى بالعين المجردة ، كانت مختفية عن الأنظار .

وعندما دوت صفارة الانذار ، كانت بعض المجندات داخل السينما فى شارع شريف ، فتوقف العرض وظهر على وجوههن الاضطراب والخوف ، وتلقين من بعض الجنود اشارة فنهضن وخرجن متسللات ، وكانت هناك عربات مغلقة تجمعهن فى الشوارع.

واستيقظ الأهالى على صوت صفارة الإنذار ودوى المدافع وهى تصك الآذان والسماء تتأجج بنار الجحيم والأنوار الكاشفة تدور ألسنتها باحثة عن الطريدة . ثم تكف عن طلقاتها وتبلع الأنوار الكاشفة السنتها ويخيم صمت رهيب.

ثم تسمع أزيزا متقطعا ، وفى مثل خطف البرق تعود السماء تتأجج بالنيران ، وصوت القنابل وهى تدك الأرض ، ويتصاعد الصياح من كل جانب مع صوت النوافذ وهى تغلق ، ويخيل اليك أن المنازل المجاورة أخذت تنهار على من فيها ، وأن الجحيم فتحت أبوابها ، وكل شىء يميد ويلتهب فى السماء والأرض .

ضرب الألمان منطقة البحر ضربا شديدا ليغرقوا الاسطول الانجليزى ، وأصابت القنابل العمـارات فى شـارع الكورنيش فهوت وطارت بعض شرفاتها وتناثر زجاج نوافذها وأصابت الأهالى .

وخيم الهدوء على جبهة القتال ، وانتهت الحرب ورحل الجنود عن المدينة ، وتنفس الناس الصعداء.

*****

بور توفيق

كانت الحرب دائرة على أشدها ، وهزائم الإنجليز تتوالى فى كل مكان ، وجنودهم فى الموانى المصرية مذعورين ، فيصخبون ويعربدون ، وكلما توالت هزائمهم اشتد ضجيجهم وصخبهم وهم يمرحون فى المدينة ، وكان معظم ساكنيها من الفرنجة .

وكان العمل فى شركات التأمين البحرى يسير منتظما وسريعا ، ولكن الإيراد قل بسبب الحرب ، والمراكب تحولت عن القناة ودارت حول رأس الرجاء الصالح .

وانطلقت فتيات من الفرنجة مع هؤلاء الجنود ، وكان كل شىء يدور فى طاحونة مادية .


وكان الناس يعيشون بحسهم ، ويلمسون أوراق البنكنوت بأيديهم وهم يحسبونها كل شىء فى الحياة .

وكان الظلام يلف المدينة فى وشاحه الأسود والهدوء يخيم عليها فى النهار .

وكل شىء يدل على أن هذه الحرب ستطول ، وأن هذه المجزرة البشرية ستنتهى على أبشع صورة ، وكان المصريون يتمنون هزيمتهم على ابشع صورة ، لأنهم يمثلون الظلم والاستعباد والفساد بكل صوره البشعة .

*****

المراجع من قصص محمود البدوى عن الحرب العالمية الثانية:
1- ساعـات الهول ... نشـرت بمجمــوعة الذئاب الجائعـــة 1944
2- جسـد وفنــان ...نشـرت بصحيــفة السـوادى1621948
وأعيد نشرها بمجموعة العربة الأخيرة
3- البـواب الأعرج ... نشـرت بمجمــوعة العـربة الأخــيرة 1948
4- ليلة لن انسـاها ... نشـرت بمجمــوعة العـربة الأخــيرة 1948
5- بيت الأشجـان ... نشـرت بصحيــفة الزمــان 3051950
وأعيد نشرها بمجموعة حدث ذات ليلة
6- ذكــريـات ... نشـرت بصحيــفة الزمــان 24101950
7- حيـاة رجـل ... نشـرت بصحيـفة الزمـان 27و28121950
وأعيد نشرها بمجموعة الذئاب الجائعة
8- الرجـل الشريف ... نشـرت بمجـــلة الجيـــل 2411955
وأعيد نشرها بمجموعة عذراء ووحش
9- الزلــة الأولى ... نشـرت بمجـــلة الجيـــل 1421955
وأعيد نشرها بمجموعة الزلة الاولى
10- تحت النيران ... نشـرت بصحيــفة الشــعب 15111956
11- صراع مع الشر ... نشـرت بمجمــوعة العـذراء والليــل 1956
12- العذراء والليـل ... نشـرت بمجمـوعة العـذراء والليــل 1956
13- الخنــــزير ... نشـرت بمجمـوعة العـذراء والليــل 1956
14- الورقــــة ... نشـرت بصحيــفة الشــعب 1951957
وأعيد نشرها بمجموعة الزلة الأولى
15- الشـــعلة ... نشرت بمجـلة الرسـالة الجــديدة 191957
وأعيد نشرها بمجموعة الأعرج فى الميناء
16- الوشـــم ... نشـرت بمجـــلة الجيـــل 2331959
وأعيد نشـرها بمجموعة حارس البستان
17- الطـــــوق ... نشـرت بصحيــفة المسـاء 2021960
وأعيد نشرها بمجموعة ليلة فى الطريق
18- امرأة فى الجانب الآخر ... نشرت بمجلة روز اليوسف مــايو 1960
وأعيد نشرها بمجموعة غرفة على السطح
19- الشــيطان ... نشـرت بمجــلة الثــقافة اكتـــوبر 1962
وأعيد نشرها بمجموعة عذراء ووحش
20- الأصــلع …نشـرت بمجــلة الهـــلال اكتـــوبر 1970
وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
21- الـبـرج ... نشـرت بمجمــوعة السفيــنة الذهبيــة 1971
22- المهــاجر ... نشـرت بصـحيـــفة مــايو 2071981
وأعيد نشرها بمجموعة السكاكين